الجمعة, مارس 14, 2025
الرئيسيةعبريكيف يُشعل الذهب فتيل الحرب في الكونغو؟ | سياسة

كيف يُشعل الذهب فتيل الحرب في الكونغو؟ | سياسة

مقدمة

ما زلت أذكر عندما كنت أقف على ضفاف نهر أوبانغي، ذلك الشريان المائي الذي يفصل جمهورية أفريقيا الوسطى عن الكونغو الديمقراطية، ممتدًا عبر العاصمة بانغي. كان الوقت عصرًا، قُبيل غروب الشمس، حين تأخذ السماء لونها الذهبي، وينعكس وهَجُها على سطح الماء الهادئ. وعلى الجانب الآخر من النهر، كنتُ أنظر بفضولٍ إلى زونغو، المدينة الحدودية الكونغولية، بمنازلها المتواضعة وأكواخها المتناثرة، وكأنها تقف على تخومِ عالمين، يربط بينهما النهر، ويفصل بينهما المصير.

ثروات الكونغو: نعمة أم لعنة؟

كنت أراقب عشرات الكونغوليين وهم يعبرون النهر طلبًا للعمل أو التجارة، ويتنقلون بين ضفتي النهر، حاملين بضائعهم على قوارب خشبية، وأحلامهم بين جنباتهم. وقتها، كنّا نسمع دائمًا عن الثروات الهائلة التي تكتنزها الأرض هناك، عن الذهب الذي يلمع في مجاري الأنهار، والكولتان الذي أصبح يُغذي التكنولوجيا الحديثة. ومع ذلك، كانت المفارقة صادمة؛ كيف يمكن لدولةٍ بهذا الغِنى أنْ تبقى عالقةً في دائرة الفقر والصراع؟ كيف تتحول الموارد التي يُفْتَرضُ أنْ تكون نعمةً إلى لعنةٍ تَلْتَهِم حاضر البلاد ومستقبلها؟

النزاعات في شرق الكونغو

اليوم، وبعد مُضيّ عقدين من الزمن، لم يَعُدْ هذا السؤال مجرد تأمُّلاتٍ عابرةٍ من ضفة النهر؛ بل أصبح قضيةً جوهريةً لفهم أحد أعقد النزاعات في القارة. إنّ شرق الكونغو الديمقراطية ليس موطنًا لمناجم الذهب والكولتان فحسب؛ بل بات ساحة حروبٍ معقدة ومتعددة الأطراف، تتغذى على هذه الثروات. في هذه المنطقة، لا تعني المعادن الثمينة التنمية؛ بل تعني تمويل المليشيات، وتهريب الثروات، وإدامة العنف الذي لا ينتهي. وبينما يتسابق العالم على هذه الموارد، تبقى المجتمعات المحلية في دائرة البؤس، تدفع الثمن الأكبر في معركةٍ لا ناقةَ لها فيها ولا جَمَلَ.

الذهب والكولتان.. شريان الحياة للمليشيات المسلحة

في العصر الحديث، أصبحت الموارد الطبيعية، وخاصة الذهب والكولتان، تلعب دورًا بارزًا في تغذية النزاع المسلح في شرق الكونغو الديمقراطية؛ حيث أصبحت هذه المعادن مصدرًا رئيسًا لتمويل الجماعات المسلحة. ففي ظل غياب سيطرة حكومية فعلية، تستغل هذه الجماعات المناجم غير الرسمية، وتفرض ضرائب غير قانونية على العمال، وتستخدم الأرباح لشراء الأسلحة، وتوسيع نفوذها.

وفقًا لتقارير خدمة معلومات السلام الدولي (IPIS) لعام 2016، فإنّ حوالي 21% من المناجم في شرق الكونغو كانت تحت سيطرة الجماعات المسلحة في ذلك الوقت. وتُشير دراسات أحدث إلى أنّ الوضع قد تغير بمرور الوقت؛ حيث أظهرت بيانات عام 2022 أنّ 27% من عمال المناجم يعملون في مواقع تخضع لسيطرة غير قانونية من قبل الجيش الكونغولي (FARDC)، أو جهات أخرى. وهذا يعكس الديناميكيات المتغيرة للصراع؛ حيث لا تزال تجارة المعادن غير المشروعة تشكل عاملًا رئيسًا في استدامة النزاع في المنطقة.

الجماعات المسلحة ودورها في الصراع

من أبرز الجماعات المسلحة التي تستفيد من تجارة المعادن غير المشروعة في شرق الكونغو، القوات الديمقراطية المتحالفة (ADF)، وهي جماعة متمردة تأسست في أوغندا خلال أوائل التسعينيات بهدف الإطاحة بالحكومة الأوغندية. ومع تصاعد الضغوط العسكرية عليها، نقلت الجماعة عملياتها إلى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، فانخرطت في أنشطة مسلحة واسعة النطاق. وتُتَّهَم الجماعة بارتكاب مجازر ضد المدنيين، وتنفيذ هجمات إرهابية، والتورط في عمليات التهريب، بما في ذلك تجارة الذهب والمعادن، لتمويل أنشطتها.

تأثير السياسات الغربية

في عام 2010، أقرّ الكونغرس الأميركي قانون دود- فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك، وهو تشريع يهدف إلى زيادة الرقابة على المؤسسات المالية بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. ومن بين بنود هذا القانون، تُعتبر المادة 1502 واحدة من أكثر المواد إثارةً للجدل؛ حيث ألزمت الشركات الأميركية بالكشف عن استخدام "معادن النزاع" مثل القصدير، التنتالوم، التنجستن، والذهب، والتأكد من عدم الحصول عليها من مناطق تشهد نزاعات مسلحة، مثل شرق الكونغو الديمقراطية.

دور الدول الغربية في شبكات التهريب

تُتهم بعض الدول الغربية، ولا سيما فرنسا، بريطانيا، وبلجيكا، بالتورط في دعم شبكات تهريب الذهب والكولتان من مناطق النزاع في أفريقيا، خاصة في جمهورية الكونغو الديمقراطية. تشير التقارير إلى أنّ بعض الشركات الفرنسية العاملة في المنطقة قد تكون متورطة في شراء هذه المعادن من مصادر غير شرعية. وعلى الرغم من غياب الأدلة القاطعة على تورط الحكومة الفرنسية بشكل مباشر، إلا أنّ وجود شركات فرنسية ضمن سلاسل التوريد العالمية التي تستفيد من هذه المعادن يُثير تساؤلات حول مدى التزام فرنسا بمكافحة هذه الظاهرة.

الخلاصة

في خضم هذا المشهد المعقد، تبقى الحقيقة الثابتة أنّ ثروات الكونغو لم تكن يومًا مجرد معادن تُستخرج من باطن الأرض؛ بل تحولت إلى خيوط متشابكة من المصالح والصراعات؛ حيث تُرسَم خرائط النفوذ بحدّ السلاح، وتُحدد مصائر الشعوب وفقًا لمعادلات السوق. وبينما تستمر التجارة غير المشروعة في تمويل آلة الحرب، يبقى السؤال الأهم عالقًا: متى تتحول هذه الموارد إلى ركيزة للاستقرار، بدلًا من كونها وقودًا للنزاع؟

ولتحقيق ذلك، لا بُدّ من كسر الحلقة التي تربط الثروات بالعنف عبر فرض رقابةٍ صارمة على سلاسل التوريد، وإلزام الشركات العالمية بمسؤولياتها الأخلاقية من خلال آليات تحقق شفافة تمنع تسلل المعادن المهربة إلى الأسواق. كما يتطلب الحل دعمًا دوليًّا جادًّا لحوكمة الموارد، كيْ يضمن أنْ تعود عائداتها إلى التنمية، لا إلى تمويل النزاعات.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة