العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان: تحديات وآفاق
في خضم التحديات الكبرى التي يواجهها العراق على المستويين الداخلي والإقليمي، باتت العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كوردستان ميداناً لاختبارات خطيرة تمس جوهر مفهوم الدولة ومبدأ العدالة والمواطنة المتساوية. ومن أبرز هذه الاختبارات قرار الحكومة الاتحادية بإيقاف تمويل رواتب موظفي الإقليم، وهو قرار يُعتبر عقوبة جماعية تتجاوز الحسابات المالية لتلامس عمق الأزمة السياسية والهوية الوطنية المشتركة.
الرواتب كحق دستوري
إن الرواتب ليست منّة من أحد، ولا ورقة تفاوض يجوز التلاعب بها. هي حق دستوري مشروع، تترتب عليه مسؤوليات أخلاقية وسياسية قبل أن تكون إدارية. حين تُمنع الرواتب عن مئات الآلاف من الموظفين والمعلمين والكوادر الصحية والإدارية، فنحن لا نتحدث عن أزمة رقمية في موازنة، بل عن ضرب مباشر لأبسط مقومات العيش الكريم. وعندما يُبرر ذلك بخلافات سياسية أو حسابات حزبية، فإن ما يتعرض له المواطن الكوردستاني يتحول من مجرد تضييق إلى استهداف ممنهج.
السياق الأوسع للعلاقة بين أربيل وبغداد
لا يُمكن فهم هذا القرار بمعزل عن السياق الأوسع للعلاقة بين أربيل وبغداد. فقد سعت حكومة إقليم كوردستان إلى تثبيت نموذج متقدم من الحكم المحلي والديمقراطية، رغم كل العوائق والقيود. ورغم الخلافات المزمنة حول النفط والميزانية والصلاحيات، فإن حكومة الإقليم استمرت في التمسك بخيار الحوار والدستور، وقدمت تنازلات مرارًا للحفاظ على وحدة العراق واستقراره. أما أن يُقابل هذا النهج بإجراءات تُشبه الحصار المالي، فذلك ليس فقط إخلالًا بالتوازن السياسي، بل تهديد فعلي للنسيج الوطني.
مسؤولية حكومة الإقليم
لقد أبدت حكومة الإقليم، خلال السنوات الأخيرة، قدرًا كبيرًا من المسؤولية في مواجهة الأزمات. من محاربة الإرهاب، إلى احتضان مئات آلاف النازحين، إلى إدارة أزمات اقتصادية خانقة، لم تلجأ أربيل إلى التصعيد، بل إلى الحكمة والعمل المؤسساتي. ومع ذلك، لا يزال الإقليم يُعامل أحيانًا كطرف خارجي أو خصم سياسي، بدل أن يُعامل كشريك دستوري ومكوّن أساسي من مكونات العراق.
آثار سياسة قطع الرواتب
إن سياسة قطع الرواتب لن تُحقق أهدافًا سياسية مشروعة، بل ستُضعف الثقة بمفهوم الدولة، وتُفاقم مشاعر التهميش والإقصاء، وتفتح الباب أمام استقطابات حادة لا يحتاجها العراق في هذا التوقيت الحرج. بل إن ما قد يُكسب بعض الأطراف نفوذًا مؤقتًا في بغداد، سيُكلف الدولة العراقية بأكملها مستقبلًا سياسيًا هشًا. لأن الظلم، حين يُمارس عبر مؤسسات الدولة، لا يُنسى بسهولة.
المطالب العاجلة
ما هو المطلوب اليوم؟ أولًا، الوقف الفوري لهذا القرار الجائر، وإعادة الرواتب إلى مستحقيها دون شروط. وثانيًا، العودة إلى طاولة الحوار السياسي الجاد بين بغداد وأربيل، وفق قاعدة الاحترام المتبادل والالتزام بالدستور. وثالثًا، تبني خطاب وطني جامع، يبتعد عن التحريض والمزايدات، ويؤمن بأن قوة العراق في تنوعه، وفي احترام خصوصيات مكوناته.
دور القوى السياسية والمجتمعية
في هذا السياق، يجب على القوى السياسية والمجتمعية والمدنية في الوسط والجنوب العراقي أن ترفع صوتها عاليًا ضد هذا النوع من الإجراءات، لأن العدالة لا تتجزأ، ومن يسكت عن ظلم اليوم، قد يكون ضحيته غدًا. دعم حكومة إقليم كوردستان في هذه اللحظة ليس موقفًا سياسيًا تقليديًا، بل اختبار للمبادئ، وفرصة لإنقاذ ما تبقى من مشروع الدولة.
الحاجة إلى بناء الثقة
في النهاية، العراق لا يحتاج إلى مزيد من الخصومات الداخلية، بل إلى بناء الثقة بين مكوناته، وضمان توزيع عادل للثروات، وتفعيل نظام فيدرالي سليم يعكس تطلعات الجميع. وإن لم نتدارك خطورة ما يحدث، فسنكون جميعًا خاسرين، وسيبقى العراق يدفع ثمن صراعات لا ينتصر فيها أحد.
إن التحديات التي تواجه العراق تتطلب من الجميع العمل بروح التعاون والتفاهم، لضمان مستقبل أفضل لجميع مكوناته.